مكيافيلي: مختارات من كتاب "الأمير"
... علينا أن نرى الآن الطرق
والقواعد التي يجب على الأمير أن يسير فيها بالنسبة إلى رعاياه وأصدقائه.
ولما كان الكثيرون قد أسهبوا في الكتابة عن هذا الموضوع، فإني أخشى أن تبدو
كتابتي عنه غرورا مني لا سيما وإنني اختلفت، في هذا الموضوع خاصة، عن رأي
الآخرين. ولكن لما كان من قصدي أن أكتب شيئا يستفيد منه مَن يفهمون، فإني
أرى أن من الأفضل أن أمضي إلى حقائق الموضوع بدلا من تناول خيالاته، لاسيما
وأن الكثيرين قد تخيلوا جمهوريات وإمارات لم يكن لها وجود في عالم
الحقيقة، وأن الطريقة التي نحيا فيها تختلف كثيرا عن الطريقة التي يجب أن
نعيش فيها، وأن الذي يتنكر لما يقع سعيا منه وراء ما يجب أن يقع، إنما
يتعلم ما يؤدي إلى دماره بدلا مما يؤدي إلى الحفاظ عليه. ولا ريب في أن
الإنسان الذي يريد امتهان الطيبة والخير في كل شيء، يصاب بالحزن والأسى
عندما يرى نفسه محاطا بهذا العدد الكبير من الناس الذين لا خير فيهم. ولذا
فمن الضروري لكل أمير يرغب في الحفاظ على نفسه أن يتعلم كيف يبتعد عن
الطيبة والخير، وأن يستخدم هذه المعرفة أو لا يستخدمها، وفقا لضرورات
الحالات التي يواجهها...
10: كيف تقاس قوة جميع الدول :
عند البحث في
طبيعة هذه الإمارات، أرى من الضروري، أن نهتم بنقطة أخرى وهي: هل يتمتع
الأمير بذلك المركز الذي يمكنه، في حالة الحاجة، من المحافظة على نفسه؟ أو
هل هو في حاجة دائمة إلى مساعدة الآخرين؟ وخير وسيلة لإيضاح ذلك أقول أنني
أعتبر الذين يستطيعون المحافظة على مراكزهم، [هم] أولئك الذين يملكون
الكثير من الرجال والمال، ويستطيعون حشد جيش كاف، ويصمدون في الميدان بوجه
كل من يهاجمهم. وأعتبر من يحتاجون إلى الآخرين، [هم] أولئك الذين لا
يستطيعون خوض المعارك ضد أعدائهم، فيضطرون إلى اللجوء إلى قلاع أسوارهم،
واتخاذ موقف الدفاع... أما الحالة الثانية، فليس هناك ما يقال سوى تشجيع
مثل هذا الأمير على تزويد مدينته بالمؤن، وتقوية وسائلها الدفاعية، وأن لا
يزعج نفسه بأحوال الريف المحيط بها. ولا ريب أن الآخرين سيترددون دائما في
مهاجمة الأمير الذي كان يجيد تحصين مدينته، ويحسن إدارة حكومة رعاياه،...
ذلك لأن الناس يكرهون دائما المغامرات التي يتوقعون فيها لقاء المصاعب، ولا
يبدو قط من السهل الهجوم على رجل أجاد الدفاع عن مدينته، وقابله رعاياه
بالحب.
14: واجبات الأمير تجاه المتطوعة :
على الأمير أن لا يستهدف
شيئا غير الحرب وتنظيمها وطرقها، وأن لا يفكر أو يدرس شيئا سواها، إذ أن
الحرب هي الفن الوحيد الذي يحتاج إليه كل من يتولى القيادة. ولا تقتصر هذه
الفضيلة القائمة فيها على المحافظة على أولئك الذين يولدون أمراء، بل
تتعداها إلى مساعدة الآخرين، من أبناء الشعب، على الوصول إلى تلك المرتبة.
وكثيرا ما يرى الإنسان أن الأمير الذي يفكر بالترف أو الرخاء، أكثر من
تفكيره بالسلاح، كثيرا ما يفقد إمارته. ولا ريب في أن ازدراء فن الحرب هو
السبب الرئيسي في ضياع الدول وفقدانها، وأن التمرس فيه وإتقانه هو السبيل
إلى الحصول على الدول والإمارات.
فعلى الأمير، تبعا لذلك، أن لا
يسمح لأفكاره بأن تذهب بعيدا عن مراس الحرب، وعليه في أيام السلم أن يكون
أكثر اهتماما بها من أيام الحرب، وهذا ما يستطيعه بواسطة أحد سبيلين هما
العمل والدراسة. فمن ناحية العمل يتوجب عليه بالإضافة إلى الإبقاء على
جنوده في حالة من التدريب والنظام أن يشغل وقته باستمرار في الصيد، وأن
يعود جسمه على المشاق، وأن يدرس في غضون ذلك طبيعة البلاد، كارتفاع الجبال،
وعمق الوديان، وامتداد السهول وطبيعية الأنهار والمستنقعات. أجل عليه أن
يعنى بجميع هذه الأمور بالغ العناية، فمعرفته هذه مجدية بطريقتين: أولهما،
أن يعرف الإنسان كل شيء عن بلاده وأن يقرر أحسن السبل للدفاع عنها.
وثانيهما، أن معرفته وتجاربه في منطقة واحدة تحمله على تفهم المناطق الأخرى
التي يضطر إلى مراقبتها بسهولة. ذلك لأن الجبال والوهاد والسهول والأنهار
في تسكانيا، مثلا، تشبه إلى حد ما نظائرها في الإمارات الأخرى. وهكذا
يستطيع المرء عن طريق معرفته بإحدى المناطق، أن يعرف أحوال المناطق الأخرى.
والأمير الذي يفتقر إلى هذه الموهبة، تنعدم فيه أولى الجوهريات التي يجب
أن تتوفر في القائد، إذ أنها هي التي تعلمه كيف يجد عدوه، وأين يقيم
معسكره، وكيف يقود جيوشه، ويخطط لمعاركه، ويفرض الحصار على المدن، آخذا
الفوائد إلى جانبه.
وقد كال الكتاب والمؤرخون المديح على فيلوبومين،
أمير الآخيين، لأنه في أوقات السلم كان لا يفكر بشيء آخر سوى الحرب
وأساليبها، وكان، عندما يذهب إلى الريف مع أصدقائه، كثيرا ما يقف ليسألهم:
إذا كان العدو على ذلك التل، ورأينا أنفسنا هنا مع جيشنا، فلمن تكون ميزة
الموقع؟ وكيف نستطيع أن نتقدم لنصل إليه بسلام، محتفظين بنظام قواتنا؟ وإذا
رغبنا في الانسحاب فماذا يتحتم علينا أن نفعل؟ وإذا انسحب العدو، فكيف
يتوجب علينا أن نلحق به؟ وكان يضع أمامهم، في الطريق، جميع الاحتمالات التي
قد تحدث لأي جيش ويستمع إلى آرائهم، ويعطي رأيه ساندا إياه بالحجج
والبراهين. وبفضل هذه الأفكار الدائمة كان يجد نفسه دائما مستعدا لمواجهة
أي حادث وهو على رأس جيوشه.
أما بالنسبة إلى العقل، فعلى الأمير أن يقرأ
التاريخ وأن يدرس أعمال الرجال البارزين، فيرى أسلوبهم في الحروب، ويتفحص
أسباب انتصاراتهم وهزائمهم، ليقلدهم في هذه الانتصارات، ويتجنب الوقوع في
الأخطاء التي أدت إلى الهزائم، وأن يفعل كما فعل غيره من الرجال في الماضي،
ومن تقليد لشخص انهال عليه المديح والتمجيد وترك مآثره وأعماله مكشوفة
للجميع، وهو ما يقال أن الاسكندر الكبير قد فعله في تقليد أخيل، وقيصر في
تقليد الاسكندر، وشيبيو في تقليد كورش. ولا ريب في أن كل من يقرأ حياة كورش
كما كتبها اكزونوفون، سيرى في سيرة شيبيو نجاحه في تقليد سلفه، وكيف تقيد
تماما بصفات كورش التي عددها اكزونوفون، والتي تنطوي على الرأفة والعطف
والإنسانية والتحرر الفكري.
وعلى الأمير العاقل أن يتبع أساليب
مماثلة، وأن لا يظل عاطلا عن العمل في أوقات السلام، بل يستخدمها بجد وجهد،
حتى إذا ما دارت عجلة الحظ وجدته متأهبا لمواجهة ضرباتها، وقادرا على
التغلب على كل صعوبة.
15: الأمور التي يستحق عليها الرجال ولا سيما الأمراء، المديح أو اللوم :
...
إن جميع الرجال ولا سيما الأمراء الذين يوضعون في مناصب رفيعة، يشتهرون
بمزايا معينة، قد تكون سببا في إضفاء المديح أو اللوم عليهم. وهكذا قد
يُعتبر أحد الأمراء كريما متحررا بينما يُعتبر الآخر بخيلا شحيحا (وقد آثرت
استخدام هذا الاصطلاح التوسكاني)، وقد يُعتبر أحدهم ذا أريحية والآخر ذا
شُح وطمع، أو قاسيا فظيعا، والثاني رحيما. وقد يُعتبر الأول ناكثا لوعده
والثاني وافيا به، أو ****ا حائر العزيمة والآخر عنيفا قوي الشكيمة، أو
ودودا إنسانيا والآخر متكبرا متعجرفا، أو داعرا فاسقا والآخر نقيا طاهرا،
أو صريحا والآخر ماكرا، أو قاسيا والآخر لينا أو جادا والآخر هازلا أو
متدينا ورعا والآخر كافرا ملحدا، وهكذا دواليك... وإني لأعرف أن كل إنسان
يقر ويعترف أن من الصفات المحمودة في الأمير أن يتصف بجميع ما ذكرت من صفات
ترمز إلى الخير، ولكن لما كان من المستحيل أن يمتلكها الإنسان جميعا وأن
يتبعها، لأن الأوضاع الإنسانية لا تسمح بذلك، فإن من الضروري أن يكون من
الحصافة والفطنة بحيث يتجنب الفضائح المترتبة على تلك المثالب التي قد تؤدي
به الى ضياع دولته، وأن يقي نفسه، إن أمكن، من تلك التي قد لا تؤدي إلى
مثل هذا الضياع، على أن يمارسها دون أي تشهير، إذا لم يتمكن من التخلي
عنها. وعليه أن لا يكترث بوقوع التشهير بالنسبة إلى بعض المثالب إذا رأى أن
لا سبيل له إلى الاحتفاظ بالدولة بدونها، إذ أن التعمق في درس الأمور يؤدي
إلى العثور على أن بعض الأشياء التي تبدو فضائل تؤدي إذا اتبعت إلى دمار
الإنسان. بينما هناك أشياء أخرى تبدو كرذائل ولكنها تؤدي إلى زيادة ما يشعر
به الإنسان من طمأنينة وسعادة.
6: السخاء والبخل :
إذا ما عدنا
الآن إلى أولى الصفات التي عددناها في السابق، تبين لي أن من واجبي القول
ان من الخير أن يعتبر الإنسان كريما سخيا، ومع ذلك فإن السخاء على النحو
الذي يفهمه العالم قد يؤدي إلى إيذائك. إذ أن ممارسته على شكل فضيلة،
وبالطريقة الصحيحة، لا تؤدي إلى معرفة الناس به، وتجعله عرضة بالتالي لأن
تتهم بالمثلبة المعاكسة. ولكن على الإنسان الذي يرغب في اشتهار أمره
بالسخاء بين الناس أن لا يتغافل عن أي نوع من أنواع العرض الذي ينطوي على
التفخيم إلى أقصى الحدود، حتى إن الأمير الذي تكون طبيعته من هذا النوع،
سيستنزف عن طريق هذه الوسائل جميع إمكانياته، وسيجد نفسه مضطرا في النهاية،
إذا أراد الاحتفاظ بشهرته في السخاء، إلى فرض ضرائب ثقيلة على شعبه، وأن
يصبح مبتزا، وأن يقدم على كل عمل يؤدي إلى كسب المال. وإذا ما انحدر إلى
مثل هذه الحالة، بدأ شعبه يكرهه، وانفض عن احترامه نظرا لفقره، ويكون
بسخائه قد أضر بالكثيرين في سبيل نفع الأقلية، وسيشعر بأول اضطراب مهما ضؤل
شأنه، ويتعرض للخطر بعد كل مجازفة. وإذا ما أدرك الأمير ذلك، ورغب في
تغيير نظام معاملته، تعرض فورا لتهمة الشح أو البخل.
وعلى الأمير،
تبعا لذلك، إذا كان يعجز عن ممارسة فضيلة الكرم دون المجازفة باشتهار أمره،
أن لا يتعرض، إذا كان حكيما عاقلا، على تسميته بالبخل. وسيرى الناس مع مضي
الزمن إنه أكثر سخاء مما كانوا يظنون، وذلك عندما يرون إنه عن طريق تقتيره
أصبح يكتفي بدخله، ويؤمن وسائل الدفاع اللازمة ضد كل مَن يفكر بإشهار
الحرب عليه، ويقوم بمشاريع كثيرة دون أن يرهق شعبه، ويكون بذلك كريما حقا
مع جميع أولئك الذين لا يأخذ منهم أموالهم، وهم كثر للغاية، وشحيحا مع
أولئك الذين لا يهبهم المال، وهم قلة ضئيلة. وقد رأينا في عصرنا الأعمال
العظيمة التي يحققها أولئك الذين يُوصَمون بالبخل. أما الآخرون فمصيرهم إلى
الدمار. وعلى الرغم من أن البابا يوليوس الثاني قد اشتهر بالكرم واستعمل
شهرته هذه في سبيل ارتقائه سدة البابوية، إلا أنه لم يحاول الاحتفاظ بالكرم
بعد ذلك، ليؤمن الوسائل اللازمة لتمكينه من شن الحروب. وقد قام ملك فرنسا
الحالي بشن عدد من الحروب دون أن يفرض على شعبه أية ضرائب استثنائية، لأنه
غطى بتقتيره الماضي جميع النفقات الطارئة التي تعرض لها. ولو كان ملك
أسبانيا الحالي كريما سخيا، لما تمكن من إقحام نفسه في هذا العدد الكبير من
المشاريع التي تكللت جميعها بالنجاح.
ولهذه الأسباب كلها، على
الأمير أن لا يكترث كثيرا باشتهاره بالبخل، هذا إذا رغب في تجنب سرقة شعبه،
وفي أن يكون قادرا على الدفاع عن نفسه، وتجنب الفقر وما يرافقه من مهانة،
وأن لا يجبر نفسه مرغما على سلب الناس أموالهم، فالُشح هو إحدى الرذائل
التي تمكنه من أن يحكم... وليس هناك ما هو أشد ضررا على نفسك من الجود
والكرم. إذ باستعمالك له تفقد قدرتك على استخدامه، وتصبح إما فقيرا وإما
حقيرا، أو إذا رغبت النجاة من الفقر تضحي نهابا سلابا، يكرهك رعاياك. وعلى
الأمير أن يتجنب، قبل كل شيء، أن يوصم بالحقارة، أو يتعرض للكراهية، ولا
ريب في أن الكرم سيقوده إلى إحدى هاتين النتيجتين. ولذا فمن الأفضل أن تكون
بخيلا، فهذا يعرضك للتحقير دون الكراهية، على أن تكون مرغما بدافع الحاجة
إلى أن تصبح لصا سلابا، مما يعرضك للتحقير والكراهية معا.
17: الرأفة والقسوة وهل من الخير أن تكون محبوبا أو مهابا :
إذا
ما استطردنا في حديثنا إلى الصفات الأخرى التي ذكرناها سابقا، فإني أرى أن
على كل أمير أن يرغب في أن يعتبره رعاياه رحيما لا قاسيا فظيعا. ولكن عليه
مع ذلك أن لا يسيء استعمال هذه الرحمة... ولذا على الأمير أن لا يكترث
بوصمه بتهمة القسوة، إذا كان في ذلك ما يؤدي إلى وحدة رعاياه وولائهم...
ويستحيل على الأمير الجديد، من دون الأمراء جميعا، أن ينجو من سمعة القسوة
والصرامة، ذلك لأن الدول الجديدة تتعرض دائما للأخطار الكثيرة. ولقد قال
فرجيل على لسان ديدو:
"على كل أمير أن يواجه الحالات الحرجة
ومقتضيات المُلك الجديدة باتخاذ التدابير المناسبة وحماية المُلك بإقامة
حراس على مسافات بعيدة".
ومع ذلك، عليه أن يكون حذرا في تصديق ما
يقال له. وفي العمل أيضا، وأن لا يخشى من ظله الخاص به. وأن يسيطر بطريقة
معتدلة، يلفها حُسن التبصر والإنسانية، حتى لا تؤدي به ثقته المفرطة إلى
الإهمال، وعدم الاهتمام، ويطوح به حياؤه إلى التعصب وعدم التسامح.
وهنا
يقوم السؤال عما إذا كان من الأفضل أن تكون محبوبا أكثر من أن تكون مهابا،
أو أن يخافك الناس أكثر من أن يحبوك. ويتلخص الرد على هذا السؤال، في أن
من الواجب أن يخافك الناس وأن يحبوك، ولكن لما كان من العسير أن تجمع بين
الأمرين فإن من الأفضل أن يخافوك على أن يحبوك، هذا إذا توجب عليك الاختيار
بينهما. وقد يقال عن الناس بصورة عامة، أنهم ناكرون للجميل، متقلبون،
مراءون ميالون إلى تجنب الأخطار، وشديدو الطمع. وهم إلى جانبك طالما إنك
تفيدهم، فيبذلون لك دماءهم، وحياتهم، وأطفالهم، وكل ما يملكون، كما سبق لي
أن قلت، طالما إن الحاجة بعيدة نائية، ولكنها عندما تدنو يثورون. ومصير
الأمير (الذي يركن إلى وعودهم دون اتخاذ أية استعدادات أخرى) إلى الدمار
والخراب. إذ أن الصداقة التي تقوم على أساس الشراء، لا على أساس نبل الروح
وعظمتها، هي صداقة زائفة تُشرى بالمال ولا تكون أمينة موثوقة، وهي عرضة لأن
لا تجدها في خدمتك في أول مناسبة. ولا يتردد الناس في الإساءة إلى ذلك
الذي يجعل نفسه محبوبا، بقدر ترددهم في الإساءة إلى من يخافونه، إذ أن الحب
يرتبط بسلسلة من الالتزام، التي قد تتحطم، بالنظر إلى أنانية الناس، عندما
يخدم تحطيمها مصالحهم، بينما يرتكز الخوف على الخشية من العقاب وهي خشية
قلما تُمنى بالفشل.
ومع ذلك، على الأمير أن يفرض الخوف منه، بطريقة
يتجنب بواسطتها الكراهية إذا لم يضمن الحب، إذ أن الخوف وعدم وجود الكراهية
قد يسيران معا جنبا إلى جنب. وفي وسع الأمير الذي يمتنع عن التدخل في
ممتلكات مواطنيه ورعاياه، وفي نسائهم، أن يحصل عليهما. وعندما يضطر الأمير
إلى سلب إنسان حياته، عليه أن يتوخى المبرر الصالح والسبب الواضح لذلك،
ولكن عليه قبل كل شيء أن يمتنع عن سلب الآخرين ممتلكاتهم، إذ أن من الأسهل
على الإنسان أن ينسى وفاة والده، من أن ينسى ضياع إرثه وممتلكاته. ويضاف
إلى هذا أن المبررات لمصادرة الممتلكات متوفرة دائما. وكل من يبدأ في
الحياة على النهب والسلب، يجد مبررا لسلب الآخرين ما يملكون، بينما أسباب
القضاء على حياتهم أكثر ندرة وأسرع زوالا.
ولكن عندما يكون الأمير
مع جيشه، وتحت تصرفه عدد كبير من الجنود، فمن اللازم أن لا يكترث كثيرا
فيما إذا أطلق الناس عليه لقب الصارم، إذ بدون مثل هذه الشهرة يستحيل عليه
الإبقاء على جيشه موحدا، خاضعا للنظام والواجب. وكانت هذه الصفة من الصفات
البارزة في هانيبال، إذ على الرغم من قيادته لجيش يتألف من رجال من مختلف
الجنسيات، ويقاتل في بلاد أجنبية، لم يقع أي نزاع بينهم، أو يظهر أي عصيان
للأمير، لا في أوقات سعده ولا في فترات نحسه. ومثل هذا الوضع لا يمكن أن
يعزى إلا لصرامته التي تنبو على حدود الإنسانية، وهذا إذا ما أضيفت إلى
فضائله الأخرى التي لا حصر لها، فقد جعلت منه دائما إنسانا مهابا ومخيفا في
عيون جنوده، ولو لم تكن فيه، لما كانت فضائله الأخرى كافية لإحداث ذلك
التأثير. ويميل الكتاب، الذين يفتقرون إلى التفكير، إلى تمجيد أعماله من
ناحية، وإلى توجيه اللوم إلى العامل الرئيسي الذي كان السبب في هذه
الأعمال.
ولا ريب في أن هذه الحقيقة التي ذكرت، من أن الفضائل
الأخرى قد لا تكون كافية. وقد تبدو في قضية شيبيو (المشهور لا بالنسبة إلى
عصره، بل إلى جميع العصور التي تعيش فيها ذكراه)، فقد ثارت عليه جيوشه في
أسبانيا، ولم تقم ثورتها إلا بسبب إغراقه في اللين واللطف، مما أدى إلى
السماح للجنود بأشياء لا تتفق مع النظام العسكري. وقد وجه إليه فابيوس
مكسيموس اللوم في ندوة مجلس الشيوخ على ذلك، متهما إياه بإفساد المتطوعة
الرومان. وكان أحد ضباط شيبيو قد أنزل الدمار بلوكري، فلم يثأر هذا منه،
كما لم يعاقب شيبيو ضابطه على حماقته لإفراطه في اللين. ومع ذلك، فقد رغب
الكثيرون في تبرير أعماله في مجلس الشيوخ، وقالوا ان ثمة كثيرين يعرفون كيف
لا يخطئون، أكثر من معرفتهم كيف يصلحون أخطاء الآخرين. ومثل هذا الموقف
كان كافيا لتشويه سمعة شيبيو لو عاش في ظل الإمبراطورية ولكنه لما كان يعيش
في ظل مجلس الشيوخ، فإن هذه الصفة المؤذية، لم يُقدر لها الاختفاء فحسب،
بل قُدر لها أن تكون مصدرا لمجده.
وإنني لأنهي القول تبعا لذلك عن
موضوع الحب والخوف قائلا إن الناس يحبون تبعا لأهوائهم وإرادتهم الخاصة،
ولكنهم يخافون وفقا لأهواء الأمير وإرادته. والأمير العاقل هو الذي يعتمد
على ما يقع تحت سلطانه لا تحت سلطان الآخرين، وعليه فقط أن يتجنب الكراهية
لشخصه كما سبق لي أن أوضحت.
18: كيف يتوجب على الأمير أن يحافظ على عهوده
لا
ريب في أن كل إنسان يدرك أن من الصفات المحمودة للأمير أن يكون صادقا في
وعوده وأن يعيش في شرف ونبل لا في مكر ودهاء. لكن تجارب عصرنا أثبتت أن
الأمراء الذين قاموا بجلائل الأعمال لم يكونوا كثيري الاهتمام بعهودهم
والوفاء بها، وتمكنوا، بالمكر والدهاء، من الضحك على عقول الناس وإرباكها،
وتغلبوا أخيرا على أقرانهم من الذين جعلوا الإخلاص والوفاء رائدهم.
وعليك
أن تدرك أن ثمة سبيلين للقتال: أحدهما بواسطة القانون والآخر عن طريق
القوة. ويلجأ البشر إلى السبيل الأول، أما الحيوانات فتلجأ إلى السبيل
الثاني. ولكن لما كانت الطريقة الأولى غير كافية لتحقيق الأهداف عادة، فإن
على الإنسان أن يلجأ تبعا لذلك إلى الطريقة الثانية. ومن الضروري للأمير أن
يعرف استخدام الطريقتين معا، أي طريقة الإنسان وطريقة الحيوان. وهذا ما
نصح به قدماء الكتاب الحكام في الماضي، مستشهدين بأخيل وغيره من الأمراء
الأقدمين الذين عهد بهم إلى شيرون القنطور الخرافي (حيوان) لتربيتهم
وتعليمهم على نظامه. وهذا الرمز الخرافي، نصف الإنسان ونصف الحيوان، قُصد
منه أن يشير إلى أن الأمير يجب أن يتعلم الطبيعتين الإنسانية والحيوانية
وإن إحداهما لا يمكن أن تعيش بدون الأخرى.
وعلى الأمير الذي يجد
نفسه مرغما على تعلم طريقة عمل الحيوان أن يقلد الثعلب والأسد معا، إذ أن
الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الشراك، والثعلب لا يتمكن من الدفاع عن نفسه
أمام الذئاب. ولذا يتحتم عليه أن يكون ثعلبا ليميز الفخاخ وأسدا ليرهب
الذئاب. وكل من يرغب في أن يكون مجرد أسد ليس إلا، لا يفهم هذا. وعلى
الحاكم الذكي المتبصر أن لا يحافظ على وعوده عندما يرى أن هذه المحافظة
تؤدي إلى الإضرار بمصالحه، وأن الأسباب التي حملته على إعطاء هذا الوعد لم
تَعُد قائمة. ولو كان جميع الناس طيبين، فإن هذا الرأي لا يكون طيبا، ولكن
بالنظر إلى أنهم سيئون، وهم بدورهم لن يحافظوا على عهودهم لك، فإنك لست
ملزما بالمحافظة على عهودك لهم. ولن يعدم الأمير الذي يرغب في إظهار مبررات
متلونة للتنكر لوعوده، ذريعة مشروعة لتحقيق هذه الغاية. وفي وسع الإنسان
أن يورد عددا لا يحصى من الأمثلة العصرية على هذه الحقيقة، وأن يظهر كم من
المرات تنكر الأمراء لمواثيق السلام، فنقضوا معاهداتهم، وكم من المرات أضحت
عهودهم لا قيمة لها من جراء تنكرهم لها، وأن يبرهن على ان أولئك الذين
تمكنوا من تقليد الثعلب تقليدا طيبا قد نجحوا أكثر من غيرهم. ولكن الضرورة
تحتم على الأمير،الذي يتصف بهذه الصفة، أن يجيد إخفاءها عن الناس، وأن يكون
مداهنا كبيرا، ومرائيا عظيما. ومن طبيعة الناس أنْ يكونوا من البساطة
والسهولة بحيث يطيعون الاحتياجات الراهنة، ولذا فإن مَن يتقن الخداع، يجد
دائما أولئك الذين هم على استعداد لأن تنطلي عليهم خديعته.
وسأكتفي
بسرد مَثل عصري واحد. فالبابا الكساندر السادس لم يقم بأي عمل سوى خداع
الآخرين، ولم يفكر بأي شيء سوى ذلك، وكان يجد دائما الفرصة للنجاح في
خداعه. ولم يكن ثمة من يفوقه مهارة في تقديم الوعود، وإغداق التأكيدات،
داعما إياها بالأيمان المغلظة، في الوقت الذي لم يكن هناك من هو أقل تمسكا
بها. ومع ذلك فقد نجح دائما في خداعهم، إذ أنه كان يتقن هذه الطريقة في
معالجة الأمور.
وليس من الضروري تبعا لذلك، بالنسبة للأمير، أن يتصف
بجميع ما أوردته من صفات، ولكن من الضروري أن يتظاهر على الأقل بوجودها
فيه. وقد أجرؤ فأقول إن حيازة هذه الصفات وتطبيقها دائما قد يؤديان إلى
تعرضه للأخطار. أما التظاهر بحيازتها فكثيرا ما يكون أمرا مجديا. وهكذا فمن
الخير أن تتظاهر بالرحمة وحفظ الوعد والشعور الإنساني النبيل والإخلاص
والتدين، وأن تكون فعلا متصفا بها، ولكن عليك أن تعد نفسك، عندما تقتضي
الضرورة، لتكون متصفا بعكسها. ويجب أن يُفهم، أن الأمير ولا سيما الأمير
الجديد، لا يستطيع أن يتمسك بجميع هذه الأمور التي تبدو خيرة في الناس، إذ
أنه سيجد نفسه مضطرا، للحفاظ على دولته، لأن يعمل خلافا للإخلاص للعهود،
وللرأفة والإنسانية والدين. ولذا فإن من واجبه أن يجعل عقله مستعدا للتكيف
مع الرياح، ووفقا لما تمليه اختلافات الجدود والحظوظ، وأن لا يتنكر لِما هو
خير، كما قلت، إذا أمكنه ذلك، شريطة أن ينزل الإساءة والشر إذا ما اضطر
إلى ذلك وضويِقَ.
وعلى الأمير أن يكون حريصا على أن لا يفضح نفسه
بأقواله، مما يتناقض مع هذه الصفات الخمس التي أشرت إليها. وعليه أن يجعل
الناس يرون فيه، ويسمعون منه الرحمة مجسدة، والوفاء للعهود، والنبل
والإنسانية والتدين. ولعل هذه الصفة الأخيرة هي أكثرها لزوما وضرورة، لأن
الناس عموما يحكون بعيونهم أكثر من أيديهم، ولأن في وسع كل إنسان أن يرى،
بينما لا يشعر إلا القليلون. فجميع الناس يرون ما تعمل، وكيف تبدو لهم، أما
القلة فيحسون حقيقتك، وستتردد هذه القلة في معارضة رأي المجموع، الذين
يعتمدون على جلال الدولة في الدفاع عنهم وفي أعمال جميع الناس، ولا سيما
الأمراء، وهي حقيقة لا استثناء فيها، تبرر الغاية الواسطة. وإذا استهدف
الأمير مثلا أن يحتل، عليه أن يحافظ على الدولة التي احتلها، فإن جميع
الناس سيرون عمله، ويعتبرونه مثالا للشرف، إذ أن من عادة الدهماء أن تغرهم
المظاهر ونتائج الأحداث. ويتألف العالَم من الدهماء، أما القلة الذين لا
يُعتبرون من الدهماء، فهم معزولون عن الناس عندما يقرر المجموع شيئا يرونه
في أميرهم. وهناك أمير معين، يعيش في عصرنا، يحسن بنا أن نغفل ذكر اسمه،
جعل همه الدعوة إلى السلام والوفاء للمواثيق، بينما هو في الحقيقة عدو لدود
لهما، ولو قدّر له أن يرعى أحدهما، لأضاع دولته وسمعته في كثير من
المناسبات التي تعرض لها.
21: كيف يعمل الأمير لاكتساب الشهرة؟
لا
شيء يوصل الأمير إلى منزلة التقدير والإجلال أكثر من إقدامه على المشاريع
العظيمة، وتقديمه الدليل على قوته. ولنأخذ مثلا معاصرا، فرديناند ملك
الأراغون، والملك الحالي لأسبانيا. وقد يصح أن نطلق عليه لقب الحاكم
الجديد، لأنه قد ارتقى من منزلة ملك صغير إلى ذروة المجد والشهرة، ليصبح
ملك المسيحية الأول. وإذا ما درست أعماله تبينت فيها العظمة البارزة، فكلها
جليل، وكلها فائق للعادة. وقد بدأ عهده بمهاجمة غرناطة، فكانت مغامرته
هذه، الحجر الأساسي في مملكته. وكان يعمل في البداية، في أوقات فراغه ووفقا
لأهوائه، دون أن يخشى تدخلا من أحد، فأشعل بذلك عقول نبلاء قشتالة في
مشروعه، حتى أنهم من جراء حصر تفكيرهم في الحرب، لم يتوفر لديهم الوقت
للتفكير بأي ابتكار أو ابتداع. وهكذا حقق لنفسه الشهرة التي أرادها،
والسلطان عليهم دون أن يشعروا بذلك في بادئ الأمر. وتمكن، بالأموال التي
أخذها من الكنيسة وجمعها من الشعب، من المحافظة على جيوشه، ومن خوض تلك
الحرب الطويلة، التي وضعت أسس قوته العسكرية، والتي أتاحت له فرصة الشهرة
وذيوع الصيت فيما بعد. يضاف إلى هذا، أنه رغبة منه في القيام بمشاريع أضخم
وأكبر، وتحت ستار الدفاع عن الدين، عمد إلى الاضطهاد الديني، فطرد العرب من
مملكته، وسلبهم كل ما يملكون، وليس هناك من مثل أتعس ولا أكثر شذوذا من
هذا. وقام بمهاجمة إفريقيا محتجاً بنفس الذريعة، وقام بمغامرته الإيطالية،
وشرع أخيرا في الهجوم على فرنسا. وهكذا فقد كان دائما يبتدع المشاريع
العظيمة، مما جبر عقول رعاياه وأذهانهم، وجعلهم مشغولين دائما بالتطلع إلى
النتائج. وكانت هذه الأعمال متعاقبة، حتى إن الواحد منها ليتلو الآخر، مما
لم يترك مجالا لأي إنسان ليحس بالاستقرار، ويبدأ أي عمل ضده.
ومن
المجدي للأمير أيضا أن يقدم بعض الأمثلة البارزة على عظمته في الإدارة
الداخلية، كما سبق وسردت من أعمال قام بها السيد برنابو في ميلان. وعندما
يحدث ويقوم أحد الناس بعمل خارق، سواء في خيره أو في شره، في الحياة
المدنية، فعلى الأمير أن يجد الوسائل اللازمة لمكافأة هذا الإنسان أو
معاقبته، بحيث يتحدث الناس عن ذلك أمدا طويلا. وعلى كل أمير، فوق هذا كله،
أن يحاول في جميع ما يعمله الحصول على اشتهار أمره بالعظمة والتفوق.
ويلقى
الأمير أيضا بالغ الاحترام إذا برهن على أنه إما أن يكون صديقا مخلصا أو
عدوا لدودا. وهذا يعني أن يعلن، بلا تحفظ، عطفه على إنسان ما، وعداءه
لإنسان آخر. ولا ريب في أن هذه السياسة أفضل دائما من البقاء على الحياد.
فإذا اشتبكت دولتان مجاورتان لك في حرب، فعليك أن تقف منهما ذلك الموقف
الذي يؤدي إما إلى خوفك من الدولة المنتصرة، أو عدم الخوف منها. وفي كلتا
هاتين الحالتين يخلق بك أن تعلن عن موقفك بصراحة، وأن تخوض الحرب. إذ أن
عدم خوضك إياها في الحالة الأولى يجعلك فريسة سهلة للمنتصر، مما يبعث في
نفس المهزوم الرضى والبهجة. ولن تجد سببا أو مبررا للدفاع عن موقفك، كما لن
تلقى أحدا يرحب بك. إذ أن المنتصر، أيا كان، لا يرغب في اتخاذ أصدقاء لا
يطمئن إليهم، ولا يسارعون إلى مساعدته في وقت شدته. أما المهزوم فلن يرحب
بك بدوره، لأنك لم تخض المعركة إلى جانبه دفاعا عن قضيته....
ويحدث
دائما، أن مَن لا يكون صديقا لك يريد منك دائما أن تظل على الحياد، أما
صديقك فيريد منك أن تعلن عن موقفك بحملك السلاح إلى جانبه. ويلجأ الأمراء
المترددون عادة، رغبة منهم في تجنب الأخطار الآتية، إلى إتباع طريق الحياد،
الذي يؤدي حتما إلى دمارهم وضياعهم. ولكن عندما يعلن الأمير بصراحة وقوفه
إلى أحد الجانبين، ويقدر لهذا الجانب أن ينتصر، فإنه يشعر على الرغم من
قوته، ومن بقاء الأمير تحت رحمته، بنوع من الالتزام تجاهه، إذ أن صداقة
متينة قد أقيمت، وليس من شيمة الناس عادة، أن يتنكروا للشرف، وأن يضطهدوا
من ساعدهم، متنكرين لجميله على هذا الشكل. يضاف إلى هذا أن الانتصارات لا
تكون عادة على ذلك النوع من النجاح الذي يُنسي المنتصر ضميره، ولا سيما
بالنسبة إلى قضايا العدالة. أما إذا هُزم حليفك فستجد المأوى لديه، وسيهب
لمساعدتك ما أمكنه، وتصبح بذلك، رفيقا لطالع، قد يشرق ثانية ويرتفع. أما
بالنسبة إلى الحالة الثالثة، عندما يكون المتحاربان من الضعف، بحيث لا تخشى
شيئا من المنتصر، وأن الخطر عليك أكثر، أن تتخذ موقفك إلى جانب أحد
الفريقين، إذ أنك تمضي إلى دمار أحدهما بمساعدة الآخر، الذي تحسم عليه
الضرورة، لو كان عاقلا أن ينقذه. أما إذا انتصر حليفك، فسيظل تحت رحمتك، إذ
يستحيل عليه أن لا يحتل بمساعدتك وعونك.
ويجب أن أبين هنا أن على
الأمير أن يتجنب الارتباط في قضية مشتركة مع أمير آخر أقوى منه، لإلحاق
الضرر بأمير ثالث، إلا إذا أجبرته الضرورة على ذلك، كما سبق وأسلفت. إذ أن
انتصاره يعني وقوعك تحت رحمته. وعلى الأمراء أن يتجنبوا، بقدر طاقتهم،
الوقوع تحت رحمة غيرهم وإرادتهم وأهوائهم. ... وعلى كل دولة، أن لا تبالغ
في الاطمئنان إلى سياستها، بل عليها أن تضع الشكوك دائما نصب أعينها. فمن
طبيعة الأمور مثلا أن لا يحاول إنسان تجنب إحدى المصاعب، إلا ويقع في صعوبة
ثانية، ولكن الفطانة تحتم عليك أن تستطيع تمييز طبيعة الصعاب، وأن تقحم
نفسك في أقلها ضررا وأذى.
وعلى الأمير أن يظهر نفسه دائما ميالا إلى ذوي
الكفاءة والجدارة وأن يفضل المقتدرين، ويكرم النابغين في كل فن، وعليه أن
يشجع، بالإضافة إلى ذلك، مواطنيه على المضي في أعمالهم، سواء في حقول
التجارة، أو الزراعة، أو أية مهنة أخرى يمتهنها الناس. وبهذه الطريقة لا
يتوانى الفرد على تحسين ما يملك مخافة أن يفقده. ولا يتقاعد آخر عن البدء
بتجارة خشية الضرائب. وعليه أن يقدم المكافآت لكل منَ يعمل في هذه الحقول،
ولكل من يسعى بمختلف السبل لتحسين مدينته أو دولته. وبالإضافة إلى كل ذلك
عليه، في الفصول المناسبة من السنة، أن يشغل الشعب بالأعياد، ومختلف العروض
المسرحية وغيرها. ولما كانت المدينة مجزأة إما إلى نقابات (guilds) أو
طبقات، فعليه أن يهتم بجميع هذه المجموعات وأن يختلط بأفرادها من وقت إلى
آخر، وأن يقدم لهم مثلا على إنسانية وجوده، محتفظا دائما بجلال منصبه ووقار
مكانته، وهما ما يجب أن لا يسمح قط بتأثرهما أو زوالهما مهما كانت
الأسباب.
23: كيفية الإعراض عن المنافقين
لن أتجاهل موضوعا مهما،
وذكر خطيئة لا يستطيع الأمراء تجنبها إلا ببالغ الصعوبة، إذا لم يكونوا من
العقلاء والحكماء، أو إذا لم يكونوا يحسنون الاختيار. وهذا الموضوع الذي
أعنيه يتعلق بالمنافقين المداهنين الذين تغص بهم بلاطات الملوك والأمراء.
فمن عادة الناس أن يُسروا ويتعزوا بما يملكون، وأن يخدعوا أنفسهم بذلك،
وهذا يجعل من المتعذر عليهم وقاية أنفسهم من هذا الوباء، حتى أنهم إذا
حاولوا هذه الوقاية تعرضوا لخطر الزراية. وليست هناك من طريقة أفضل في
وقاية نفسك من النفاق، من أن تجعل الجميع يدركون أنهم لن يسيئوا إليك، إذا
ما جابهوك بالحقيقة. ولكن عندما يجرؤ كل إنسان على مجابهتك بالحقيقة فإنك
تفقد احترامهم. والأمير العاقل هو من يتبع سبيلا ثالثا، فيختار لمجلسه
حكماء الرجال، ويسمح لهؤلاء وحدهم بالحرية في الحديث إليه ومجابهته
بالحقائق، على ان تقتصر هذه الحرية على المواضيع التي يسألهم عنها، ولا
تتعداها. ولكن عليه أن يسألهم عن كل شيء وان يستمع لآرائهم في كل شيء، وأن
يفكر في الموضوع بعد ذلك بطريقته الخاصة. وعليه أن يتصرف في هذه المجالس،
ومع كل من مستشاريه، بشكل يجعله واثقا من أنه كلما تكلم بصراحة وإخلاص،
كلما كان الأمير راضيا عنه. وعليه بعد ذلك أن لا يستمع إلى أي إنسان، بل
يدرس الموضوع بنفسه على ضوء آراء مستشاريه، ويتخذ قراراته التي لا يتراجع
عنها. أما الأمير الذي يسير على طريقة مغايرة، فيتهور متأثرا بآراء
المداهنين والمنافقين، أو يبدل قراراته وفقا للآراء المتعددة التي تُطرح
عليه، فإنه يفقد الاحترام والتقدير.
...
ولهذا على الأمير أن
يقبل النصيحة دائما، ولكن عندما يريد هو، لا عندما يريد الآخرون، بل عليه
أن لا يشجع مطلقا المحاولات لإسداء النصيحة إليه، إلا إذا طلبها. ولكن عليه
أن يكثر من سؤالها وأن يحسن الإصغاء إلى الحقائق التي تُسرد عليه عندما
يسأل عنها. وعليه في الحقيقة أن يغضب إذا رأى أحد مستشاريه يتردد في قول
الحقيقة له. ولما كان من رأي بعض الناس أن الأمير الذي يشتهر أمره بالتبصر
والحكمة لا تعزى شهرته إلى طبيعته، بل إلى خبرة المستشارين الذين يلتفون
حوله، فإنني أقول أن الرأي خاطئ تماما. فالقاعدة العامة، التي لا شواذ لها،
أن الأمير الذي لا يتصف بالحكمة لا يمكن أن يشار عليه بطريقة صالحة، إلا
إذا ترك نفسه عرضا، وبصورة كلية، بين يدي شخص واحد يتحكم فيه تحكما كليا،
وكان هذا الشخص عاقلا متبصرا. وفي هذه الحالة قد يحكم الأمير حكما صالحا،
ولكن هذا الأمر لن يدوم طويلا إذ أن الحاكم بأمره سرعان ما ينتزع منه
سلطانه ودولته. أما إذا استشار هذا الأمير البعيد عن الحكمة الكثيرين، فلن
تتوفر له المشورة الجماعية المتحدة، ولن يكون في مكنته أن يوحد بين الآراء
التي تُشار عليه، لتكتسب صفة الإجماع. وسيلجأ المستشارون إلى التفكير
بمصالحهم، بينما يعجز هو عن ردهم إلى السبيل السوي، أو حتى عن فهمهم. وليس
هناك من مناص مما ذكرت، إذ أن من شيمة الناس أن يخادعوك، إلا إذا أُرغموا
بطريق الحاجة الماسة على أن يكونوا صادقين. ولهذا فإن النتيجة التي أصل
إليها هي أن المشورة الحكيمة، حيثما جاءت، يجب أن تكون خاضعة لحكمة الأمير
وتبصره، وأن لا يخضع تبصر الأمير للمشورات التي تقدم إليه، مهما كانت
صادقة.
25: أثر القدر في الشؤون الإنسانية وطرق مقاومته
ا أجهل أن
كثيرين كانوا، ومازالوا، يعتقدون بأن الأحداث الدنيوية يسيطر عليها القضاء
والقدر، ويتحكم فيها الله، وأن ليس في وسع البشر عن طريق الحكمة والتبصر
تغييرها أو تبديلها، وأن لا علاج لذلك مطلقا. ولذا فإن من الجهد غير المجدي
أن يعمل الإنسان شيئاً لرد ما حكم به القضاء، وأن عليه أن يدع الأمور تجري
في أعنّتها وفقا لمشيئة الحظ. وقد كثر القائلون بهذا الرأي في أيامنا بسبب
التبدلات العظيمة التي رأيناها، والتي ما زلنا نراها في كل يوم والتي تفوق
كل تصور بشري. وعندما أفكر في هذه التبديلات أميل أحيانا إلى مشاركة أولئك
الناس رأيهم، ولكني مع ذلك أعتقد أن ليس في وسعنا تجاهل إرادتنا تمام
التجاهل. وفي رأيي، أن من الحق أن يعزو الإنسان إلى القدر التحكم في نصف
أعمالنا، وأنه ترك النصف الآخر، أو ما يقرب منه، لنا لنتحكم فيه بأنفسنا.
وأود أن أشبه القدر بالنهر العنيف المندفع الذي يغرق، عند هيجانه واضطرابه،
السهول ويقتلع الأشجار والأبنية، ويجتث الأرض من هذه الناحية ليقذف بها
إلى تلك، فيفر الناس من أمامه ويذعن كل شيء لثورته العارمة دون أن يتمكن
أحد من مقاومته. ولكنه على الرغم من هذه الطبيعة تكون له طبيعة أخرى يعود
فيها إلى الهدوء. وفي وسع الناس آنذاك أن يتخذوا الاحتياطات اللازمة بإقامة
السدود والحواجز والأرصفة، حتى إذا ما ارتفع ثانية انسابت مياهه إلى أحد
الأقنية، أو كان اندفاعه لا ينطوي على تلك الخطورة وذلك الجنون. وهذه هي
الحالة مع القدر الذي يبسط قوته عندما تنعدم الإجراءات لمقاومته، ويوجه
ثورته إلى حيث لا توجد حواجز ولا سدود أقيمت في طريقه لكبح جماحه. وإذا ما
تطلعتَ إلى إيطاليا التي كانت مسرحا لهذه التبدلات العظيمة، والتي دفعت
الناس إلى الإيمان بذلك الرأي، وجدت أنها بلاد لا تضم شيئا من الحواجز
والسدود مهما كان نوعها. ولو قدرت لها الحماية بالوسائل الصحيحة كألمانيا
وأسبانيا وفرنسا، فإن هذا الفيضان ما كان ليُحدِث تلك التبدلات العظيمة
التي أحدثها، أو لما وقع الفيضان على الإطلاق.
وأعتقد أن في ما قلته
الكفاية عن طُرق مقاومة القدر بصورة عامة، أما إذا أردتُ تقييد نفسي في
قضايا معينة ففي وسعي أن أشير إلى أننا نرى اليوم أميرا معينا يكلل السعد
هامته، ثم نراه غدا وقد تحطم دون أن نرى فيه تبدلا في طبيعته أو في أي شيء
آخر. إنني لأعتقد جازما أن هذا التبدل نجم من الناحية الأولى من الأسباب
التي سبق لي شرحها بإسهاب وتفصيل، أو بكلمة أخرى، لأن هذا الأمير قد أركن
كلية إلى القدر، فحطمه القدر عندما دارت عجلته. وإني لأعتقد أيضا بسعادة
ذلك الإنسان الذي تتفق طريقة إجراءاته مع مقتضيات الزمن، وبتعاسة مَن يعارض
في إجراءاته تلك المقتضيات. وإننا لنرى الناس يختلفون في الطرق التي
يتبعونها للوصول إلى ما يستهدفونه دائما من مجد وثراء. فمنهم من يلجأ إلى
الحذر ومنهم من يختار التهور ومنهم من يتبع العنف، وآخرون يتبعون الحيلة
والمكر ومنهم من يصبر ويصابر، وآخرون يتسرعون، ولكنهم جميعا قد يصلون إلى
أهدافهم. وقد نرى شخصين حذرين ينجح أحدهما في مشاريعه، بينما يفشل الآخر.
وقد نجد من ناحية أخرى شخصين يصلان إلى هدف واحد، بطريقين مختلفين، أحدهما
ينطوي على الحذر والأناة، والآخر على التسرع والمجازفة. وكل هذا ينجم عن
اختلاف طبيعة الزمن التي قد تتفق أو لا تتفق مع طريقة الإجراء. وينتج عن
هذا، كما قلت، أن رجلين يعملان بطريقتين متباينتين،يصلان إلى نفس النتيجة،
بينما هناك رجلان آخران، يعملان بنفس الأسلوب فينجح الأول من حيث يفشل
الثاني. وعلى هذا تتوقف أيضا التبدلات في النجاح والازدهار، فقد يحدث أن
تكون عوامل الزمن والظروف ملائمة لرجل يعمل بحذر وحسن تبصر، فيلقى النجاح،
ثم لا تلبث أن تختلف عوامل الزمن والظروف، فيتحطم لأنه لم يغير طريقته في
العمل. ولم يحدث قط أن وجد إنسان على هذا القدر من التعقل والروية، بحيث
يكيف نفسه لجميع هذه العوامل، إما لأنه لا يستطيع الانصراف عما تميل إليه
طبيعته، أو لأنه، وقد ألف النجاح في السير على طريق واحدة، لا يستطيع إقناع
نفسه، بأن من الخير له أن يتركها. ولذا فإن الرجل المتعود على الأناة يرى
نفسه عاجزا عن تكييف أعمال عندما تقتضي الضرورة السرعة، فيلحق به الخراب
والدمار. وإذا كان باستطاعة الإنسان أن يغير طبيعته وفقا لتغير الأزمنة
والظروف، فإن القدر لا يتغير أبدا.
وكان البابا يوليوس الثاني
متهوراً في كل ما عمله، وقد رأى الأوقات والأوضاع متفقة مع طريقته في
العمل، بحيث تمكن دائما من الحصول على نتائج مثمرة.
ولندرس الآن
الحرب الأولى التي شنـها على بولونا عندما كان السيد جيوفاني بنتفوغلي لا
يزال على قيد الحياة، ولم يكن البنادقة راضين عن هذه الحرب، وكذلك ملك
أسبانيا. وكانت فرنسا لا تزال تتشاور معه حول هذا المشروع، ومع ذلك، فنتيجة
لميوله العنيفة والمتهورة، أقدم شخصيا على حملته. وقد أدت حركته إلى أن
يقف البنادقة وأسبانيا موقف المتردد، وذلك بسبب خوف البنادقة من ناحية،
ورغبة أسبانيا في استعادة مملكة نابولي بكاملها. وتمكن من الناحية الثانية
من أن يجر إلى جانبه ملك فرنسا، إذ أن هذا، وقد رآه يقدم على حركته، ورغبة
منه في صداقته ليخضع عن طريقها البنادقة، قرر أن ليس باستطاعته أن يضن عليه
بإرسال قوات لمساعدته دون أن يسبب له رفضه إساءة بالغة. وهكذا تمكن
يوليوس، عن طريق تهوره، من تحقيق ما عجز غيره من الباباوات عن تحقيقه عن
طريق التحكم والعقل، ولو تمهل حتى يتم اتخاذ الترتيبات، وتمهيد كل شيء قبل
أن يغادر روما في طريقه لتحقيق مشروعه، وهو ما كان يعمله حتما أي بابا آخر،
لما نجح في الحصول على هدفه. إذ أن ملك فرنسا، كان سيجد حتما ألف مبرر
لإقناعه بالتريث، وكان الآخرون سيوحون إليه بألوف المخاوف التي تساورهم.
ولن أتحدث عن أعماله الأخرى، التي كانت جميعا من هذا النوع، والتي انتهت
كلها إلى النجاح. ولا ريب في أن قصر حياته هو الذي وفر عليه تجربة الفشل،
إذ لو طالت حياته وجاءت الأوقات التي تتطلب منه أن يعمل بحذر وتعقل، فإن
مصيره كان الدمار حتماً، إذ أنه أعجز من أن يتحول عن تلك الأساليب التي
تميل إليها طبيعته.
وإني لأختتم حديثي قائلا بإن الحظ يتبدل، أما
الناس فيبقون ثابتين على أساليبهم، وهم ينجحون طالما أن أساليبهم تتوافق مع
الظروف، أما عندما تتعارض فإن الفشل سيكون من نصيبهم. وإنني لأعتقد أن
التهور خير من الحذر، ذلك لأن الحظ كالمرأة، فإن أردت السيطرة عليها، فعليك
بالقوة ان تفوز بها. وسترى حينها انها بدورها تسمح بامتلاكها للرجل
الشجاع، لا لذلك الذي يسير ببرود. والحظ، شأنه في ذلك شأن المرأة، يميل
دائما إلى الشباب، لأنهم أقل حذرا وأكثر ضراوة، ويقبلون عليها بقحة وجرأة.
منقول
ترجمة: خيري حماد