الطريق، نعبره مرغمين . والمسافة الفاصلة بين المدرسة والفيلاج ،
تبعد بأميال كثيرة . مسافة كنّا نقدرها بخمسة فراسخ أو ما يزيد.. بعد ما
نقطع نصفه . نكون قد أشرفنا على ربوع . تتسع إلى أمداد بعيدة ، نطأ ترابها ،
بعد عبور النهر مباشرة ، تتناثر على شساعتها مساكن تنتشر عن اليمين وعن
الشمال .
نقطع الطريق صعودا ، بين أشجار سامق علو ها ، الى عنان السماء . من الأرز والصفصاف والزيتون .
كان
الطريق ممتعا . تفترش مساحة الارتفاع ، الذي كنا نصعده لاهثين ، من مجرى
النهر إلى قمة الهضبة . تاركين النهر يتبع مجراه نحو الخنادق . خنادق وشمها
في التواءاته ، الصبيب المندفع بقوة ، أيام الشتاء الممطرة والعاصفة.
كم
كانت لحظة جميلة ، أحببتها كثيراً ، أن أظل أطل على النهر ، وأنا أصعد
الربوة لاهثا ، بين الفينة والأخرى. أتملى بجداول الماء التي تنساب صافية ،
محاذية ، لجنبات الربوع الممتدة على طوله الملتوي ..
وذات صباح ، من
أيام الخريف الرطبة ، وأنا أطوي كعادتي ، طريق الهضبة . تناهى إلى سمعي
فجأة ، جدال . على شكل ذبذبات موسيقية . كانت سنفونية لأصوات نسائية . صوت
امرأة ، تتقاذفه الرياح ، من وراء الربوة، التي كنت أكاد أن أطل من علوها ،
على وجه الطريق .
لم أتبين مصدر الأصوات أول الأمر، لكن بتتابع الخطوات
، بدأت ألتحم أكثر في هيجانها . وشيئا فشيئا.. بدت لي على مسافة غير بعيدة
، امرأتان منتصبتان ، اتخذت كل منهما مقاما لها ، على ربوتين متقابلتين ،
تطلان على الطريق مباشرة . ذاك الطريق الذي كنت أسلكه مرة كل أسبوع.
كانت
إحدى المرأتين ، قد اتخذت مكانا لها ، فوق الربوة ، على الجهة الشرقية من
الطريق ، حيث ظلّت الأخرى تقابلها ، في الجهة الغربية منه.
لم أتوقع
أبدا ، أن يكون ذاك الشجار ، شجارهما ، حامي الوطيس ، على ذاك النحو . شجار
يشخص من كلماته ، ملحمة بطولية ، سلاحها الكلمات ، وخطتها نغمات ، آتية من
أصوات أنثويّة نسائية . يتردد صداها في قاع النهر ، كنداء الزمان..
تحت
شجرة زيتون مثمرة ، اتخذت مكانا لي ، قبعت به ، أستفيئ بظلها ولأتتبع سجال
هذه الحرب الكلامية، ومراحل تطورها . عراك نسوة ، ذهبت السنون بكل أريحتهن
، وضيعت الأيام رقّتهن . سجال في حضرة الأزواج . الأول يعتل بمعول ، يشقّ
به الأرض شقاً ، بضرباته القوية المتتالية . والآخر ينسج حبالا من العزف .
يتناسق التواءها ومهارة خفّة حركات يديه اليسرى .. القويتين والخشينتين .
يستمعان دون أن ينطقا .. صامتان .. جامدان كصنمين . وحده صوت المرأتين ، هو مايحرك سكون النهر ، هو ما كان يجلجل في شساعة الخلاء .
إنه
سجال أدبي رائق . يشدك لتصيخ السمع ، لشذراته المقفاة بلحن الحياة . أدركت
ذلك وأنا أنصت إليهما . ثم وأنا أغادر المكان ، لاهيا ، ساهيا عن حاجاتي ،
التي سجلتها في ذاكرتي المتعبة ..
يتردد صدى صوت المرأة الأولى شتماً
وقدحا .. بقافية . تصاحبها نغمات موسيقية ، متناوبة . شنّفت سمعي وأطربت
أحاسيسي ، واندهشت لها روحي أيما اندهاش ، لتظل الثانية صامتة ، تنصت في
سكون . تنظر إلى الأفق البعيد بشموخ وبزهو وانتشاء .. وكأنها تقرأ طالع
اليوم ، لتعد لحربها خطة الإقلاع . ولاياتي ردها إلا بعد انتهاء الأولى..
واستخلاصها مما في جعبتها ، من كلمات .. فتسجع الثانية ، بقافية تغاير
قافية المرأة الأولى . وبكلمات ترقى لتتخطى معاني كلماتها . تتراقص الكلمات
والنغمات ، وضفة النهر تحضننا ، ومجراه يردّدها أسراراً وبوحا ، في ثنايا
أدهر الزمن.. المنتفض من حر الشمس ..
تظل المرأتان كذلك لمدة .. حتى تحس
كل منهما ، أن نفسها قد ارتوت ، من عناد الأخرى ، فتخبو الأصوات ، ويخف
السّجال ويجف ، وكأنه نهر تشبعت أتربته بلهب الحر ، وتتوادعان . وتقفل كل
منهما باب بيتها عليها ، في وجه الأخرى . ولا يمكن أن يحدث ذلك ، إلا وغروب
الشمس ، ينسج خيوط المساء ، وهو يكاد ينتهي على أفق المغيب .
ولكم أثارني هذا السّجال الغريب ، ولم أكن أتوقع ، حدوثه في يوم ما ، من أيام حياتي..
تابعت
طريقي نحو الفيلاج و مضيت ، و أنا أفكر بعمق ، في أحدى المرأتين . تلك
المرأة التي كانت تحتل الجهة الشرقية من الطريق ، وفي ذاك المشهد المثير .
لا أنكر أنه مشهد ، طبع في نفسي إحساسا بالاعتزاز ، وحب المرأة واحترامها .
مشهد لطالما استهواني كثيرا وأنا أركب صورة وجهها ، وقسماته التي طبع
الزمان عليه أخاديده . فزادها وقارا ، وصلابة وعزة .. وكم أثارتني تلك
الطريقة الحوارية المنمّقة . التي ظل الحوار يدور فيها بينهما ، والذي حبك
ذاك السّجال ، الذي دفن في نفسي ، أريج الحياة وحب المرأة .
خمنت أنها أمسية شعرية لشاعرتين ، ترددان فيها ما جادت به قريحتهما . استحسنت تلك الطريقة .
وكنت
كلما مررت قرب بيتها ، طوال مدة إقامتي هناك ، أقف للحظة ، أمام بابه
المغلق استرجع فيها صدى كلماتها المتناثرة ، عبر فضاء الوادي الموحش ، كما
هي بيوت القرية. وأنا أتأمل أبوابها وبيت المرأة ، وأتساءل في صمت . أهي
فطرة شاعرات ، يوظفن إبداعهن وقت الغضب..؟ أم هي عفويتهن ، تحرك في نفوسهن
خيوط الإبداع ، فتتفجر طاقة السّب والشّتم ، شعرا وكلمات وإبداعا . ليبدعن
الأحسن والأجود.!؟
كنت أفعل ذلك كل مرّة ،كلما مررت من هناك . فأحاول أن
أستقرئ جوابه ، من وجه إحدى المرأتين ، وأنا ألقاها في طريق العودة إلى
القرية .
لا أنكر ، أني كلما صادفتها ، كنت ودون أن تشعر بي ، أبجّلها
تبجيلا.. وأقدرها تقديرا.. وأنا القي عليها تحيّة السّلام ، في همس فأقول :
- سلام عليك سيّدتي الشاعرة..