عند الحديث عن العلاقات الاريترية الاثيوبية أول ما يستوقف المرء بالنسبة
لطبيعة الصراع بين الجانبين هو أنه ليس صراعا حدوديا فقط، وإنما البعد
الحدودي هو أحد أوجه الصراع، أو أحد مخرجاته. ولعل هذا ما يكسبه خصوصية
مقارنة بالنزاع مع اليمن حول جزر حنيش، بالرغم من الأهمية الإستراتيجية
لهذه الجزر، مقارنة بمناطق النزاع بين إثيوبيا وإريتريا، حيث إن المناطق
المتنازع عليها هي صحراء جرداء لا توجد بها موارد طبيعية، أو تجمع بشري
يذكر. وبالرغم من ذلك، فإن المشكلة الحدودية مع اليمن تم حلها، في حين إن
المشكلة في القرن الإفريقي لم تنتهِ، مما يضع شكوكا في إمكانية تنفيذ
إريتريا الفعلي لقرار المحكمة.
فالصراع الإثيوبي الإريتري يرتبط في جزء
منه بالأوضاع الاقتصادية، وفي جانب آخر بالقيادة السياسية في كلتا
الدولتين، وفي جانب ثالث يرتبط بالعامل النفسي في الصراع - وهذا هو الأهم -
حيث لا يزال يشكل هاجسا كبيرا في علاقة البلدين ببعضهما البعض، والذي
انعكس بدوره على ممارساتهما بعد استقلال إريتريا الفعلي عام 1991، والرسمي
عام 1993 فإثيوبيا لم تنس أن إريتريا كانت في يوم من الأيام خاضعة لها، كما
أنها كانت تشكل أهمية بالغة لها نظرا لوجود مواني إريترية على ساحل البحر
الأحمر كمينائي مصوع وعصب، في حين أن إثيوبيا أصبحت دولة حبيسة بعد استقلال
إريتريا؛ ومن ثم فإن استقلال إريتريا جعلها – أي إثيوبيا – خاضعة لها فيما
يتعلق بمبادلاتها التجارية مع العالم الخارجي.
ومن هنا يمكن فهم أسباب
معارضة القيادة السياسية في إثيوبيا لاستقلال إريتريا، بالرغم من معارضة
ذلك لقرارات الأمم المتحدة، فهذه القيادة كانت ترى أنه ينبغي أن تظل
إريتريا مرتبطة بها عبر شكل من أشكال الكونفدرالية، ولم يخف رئيس وزراء
إثيوبيا ميليس زيناوي ذلك، بل عبر عنه في مقابلة صحفية عام 1991- أشار فيها
إلى معارضته لاستقلال إريتريا، وموافقة بلاده على إقامة علاقة كونفدرالية
معها، وأوضح أن السبب في ذلك يرجع إلى رغبة بلاده في إيجاد منفذ لها على
البحر، وباستقلال إريتريا ستحرم بلاده من هذا المنفذ، ولعل هذا يفسر أسباب
قيام إثيوبيا في الحرب بالوصول إلى ميناء عصب، وعدم اقتصارها على المناطق
الحدودية. ولقد اتضحت هذه الجزئية في الاتفاقات التي تم توقيعها عقب
الاستقلال؛ إذ ضغطت إثيوبيا على إريتريا لاستغلال ميناء مصوع مقابل دفع
رسوم رمزية تبلغ 1.5% فقط، ثم طالبت بإلغائها بعد ذلك.
وفي المقابل نجد
أن إريتريا - منذ الاستقلال - حريصة على التخلص من عقدة النقص التي لديها
ومفادها أنها كانت محتلة من قبل إثيوبيا طيلة ما يزيد عن أربعة عقود؛ ومن
ثم فهي تسعى للتخلص من هذه التبعية، وفي سبيل تحقيق ذلك اتخذت أسمره عدة
إجراءات في هذا الشأن مثل صك عملة جديدة لها عقب الاستقلال هي "النقفة"
بعدما كان التعامل يتم من خلال "البر" الإثيوبي، وهو ما دفع أديس أبابا إلى
الرد بقوة من خلال فرض التعامل التجاري معها من خلال الدولار، وهو أمر صعب
على صغار التجار في إريتريا، كما تلا ذلك اتخاذ إثيوبيا قرارا باستخدام
ميناء جيبوتي من ناحية ثانية، بالرغم من أن التكلفة الاقتصادية ستكون أكبر،
وفرضت أديس أبابا عقوبات على التجار الذين يستخدمون ميناء عصب.
و
للتعرف على طبيعة الخلاف و النزاع الحدودى بين اريتريا و اثيوبيا لابد من
القاء الضوء على الخلفية التاريخية التى تقف وراء هذا النزاع .
ففي عام
1896م ، وُقعت معاهدة أديس أبابا، التي حددت الحدود الحبشية مع إريتريا،
على أساس أن الحد الفاصل بينهما، هو نهر مأرب، وبذلك ظهرت الشخصية
الإريترية، وحدة مستقلة.
وفي عام 1930م أصبح هيلاسيلاسي، إمبراطوراً
للحبشة، التي انضمت إلى عصبة الأمم المتحدة، في عام 1931م . وفي عام 1936م ،
غزت إيطاليا الحبشة، ونُفي الإمبراطور هيلاسيلاسي إلى بريطانيا، ورفضت
عصبة الأمم المتحدة، مساعدة هيلاسيلاسي على العودة إلى بلاده.
وكانت
بريطانيا تَعُدّ إريتريا جزءاً من مستعمرات إيطاليا، ففي سبتمبر 1948 منحت
بريطانيا الحبشة جزءاً من الأراضي الفاصلة بين الصومال وإثيوبيا، إضافة إلى
أقاليم أخرى.
وحاولت الدول الأربع الحلفاء (إنجلترا، وأمريكا،
وفرنسا، والاتحاد السوفيتي) حل مشكلة الحدود بين إثيوبيا، وإريتريا،
والسودان. فأرسلت وفداً لتقصي الحقائق، وقد فشل الوفد في الوصول إلى قرار.
تقدمت
الوفود باقتراحات متعددة، كان واضحاً منها تحيزهم إلى إثيوبيا. وأعيدت
القضية مرة أخرى للمناقشة في اللجنة السياسية، ثم طُرح الأمر على الأمم
المتحدة، التي اتخذت بدورها عدداً من القرارات.
بدأت عصابات الشفتا
في إريتريا، مقاومة السلطات الحاكمة. وقد شجعت إثيوبيا، حركة الاضطرابات
الداخلية في إريتريا، نتيجة لتصميم الإمبراطور هيلاسيلاسي، على ضم إريتريا
لإثيوبيا بأي وسيلة، وعدم التفريط فيها. ويرجع ذلك أساساً لرغبة الإمبراطور
في توسيع أرجاء إمبراطوريته، وإلى ضرورة إيجاد منفذ على البحر الأحمر
لدولته.
لذا، بدأت إثيوبيا في وضع العراقيل، أمام استقلال إريتريا،
لتُظهر أن الحل الأمثل، هو الاتحاد التام مع إثيوبيا، وقد استغلت إثيوبيا
ضعف صياغة قرار الأمم المتحدة، لأنه لن يحدث تكافؤ، لاتحاد يقوم بين طرفين،
أحدهما أقوى وأكبر من الطرف الآخر. وكان على مفوض الأمم المتحدة، إيجاد
صورة مناسبة، لدستور إريتريا، الذي يقوم على مبادئ الحكومة الديموقراطية.
وهذا المبدأ يتنافى مع الفلسفة السياسية، الخاصة بالنظام الإثيوبي، نظراً
لأن نظام الحكم الإثيوبي لا يعترف بالأحزاب، في حين أن إريتريا في هذه
الفترة، كانت تتمتع بوجود أحزاب متعددة لديها. كذلك، فإن القرار، لم ينص
على شكل دستور دولة الاتحاد، ولا على شكل الحكومة فيها.
و كان سقوط
الإمبراطور هيلاسيلاسي، في عام 1974م ، فرصة مواتية للثورة الإريترية،
للضغط على الحكومة الجديدة، لتحقيق مطالبها. وعلى الرغم من الخلافات
الحادة، التي كانت بين أجنحة الثورة الإريترية، فإنها غامرت بهجوم مشترك،
في أوائل عام 1975م ، حقق بعض الأهداف الإعلامية والعسكرية، ولم يحقق باقي
أهدافه.
و تجددت المعارك بين الجانبين في 4 يونية 1998م بعد فشل
جهود الوساطة الدولية، استُخدمت فيها الدبابات والمدفعية الثقيلة. وألحقت
القوات الإريترية خسائر فادحة بالقوات الإثيوبية، أجبرت السلطات الإثيوبية
على شن عدة غارات جوية. واستخدام سلاح الجو الإثيوبي في ضرب أهداف العمق
الإريتري، مثل العاصمة أسمرة ومطارها. وبعد ذلك تبادلت الدولتان طرد
الرعايا والدبلوماسيين، وفرضت إثيوبيا، بفضل تفوقها في سلاح الجو وفي
البحرية، حظراً جوياً وبحرياً على إريتريا في 10 يونية 1998م، لإجبارها على
التخلي عن موقفها من النزاع. وعلى الرغم من الوساطة الأمريكية، التي طلبها
الجانبان من البداية، ومناشدة الأطراف الإقليمية والدولية لهما، باللجوء
إلى التفاوض لتسوية المشكلة، وقبول الطرفين للوساطة والمساعي الحميدة، فإن
القتال اتسع نطاقه على نحوٍ مدمّر، لدرجة قصف الطائرات الأهداف الحيوية،
مدنية وعسكرية. وحتى بعد قبول الدولتين للمبادرة الأمريكية، الخاصة بوقف
الغارات الجوية على الأهداف المدنية، تحولت ساحة الصراع إلى معارك برية
شرسة.
ومنذ انفصلت إريتريا وأصبحت دولة مستقلة، أثيرت نزاعات حدود دولية
في منطقة القرن الأفريقي، كانت إريتريا أحد أطرافها. وهي تهدف من صراعها
مع إثيوبيا إلى المطالبة بترسيم الحدود، التي خططها الاستعمار الإيطالي،
خاصة أن هذه المناطق تضم امتدادات سُكّانية لشعب إريتريا في إثيوبيا، هي
القومية التيجرية، التي فرض أساسي أفورقي لغتها "اللغة التيجرية"، لغة
رسمية لبلاده، بدلاً من اللغة العربية. وكان ذلك أحد مبرراته لاحتلال هذه
الأراضي، التي كانت الحكومة الإثيوبية في عام 1997م ، قد نشرت خرائط تظهرها
مضمومة إليها. فهناك من خمس إلى ست مناطق متنازع عليها، منها منطقة
زالامبسا، التي تقع على بُعد160 كم شمالي ميكيلي، عاصمة ولاية تيجراي
الإثيوبية؛ ومنطقة بوري قرب جبل موسى، على بعد 75 كم جنوب غرب ميناء عصب
الإريتري، المطل على البحر الأحمر، ومنطقة بادمي جنوب غرب إريتريا، ومنطقة
شيرارو على الحدود الغربية للبلدين، ومنطقة مثلث برجا والحميدة، شمال غرب
إثيوبيا، وهو مثلث من الأراضي الصخرية مساحته 400 كم، تؤكد كل من الدولتين
أنه جزء من أراضيها، إضافة إلى مناطق أليتينا، وأنداكيدا وعفر، وتيجراي،
خاصة مدن ميكيلي عاصمة ولاية تيجراي، وأبيجي، ومنطقة بورو، ومنطقة أردي
ماتيوس. وهذه الأقاليم تخضع للسيادة الإثيوبية، لكن يخضع معظمها الآن
لسيطرة القوات الإريترية. ويبدو أن حكومة إريتريا تريد عودة الحدود إلى ما
كانت عليه إبان الاستعمار الإيطالي، في الفترة من نهاية القرن التاسع عشر
حتى استيلاء بريطانيا عليها عام 1941م ، حيث تم تعديل الخريطة عام 1952م ،
وهذا ما أدى إلى النزاع الحالي، خاصة أن هذه الحدود غير محددة، وتحتاج إلى
الترسيم. أما إثيوبيا فإن وضعها الجغرافي الحالي، وحرمانها من المنافذ
البحرية، على الرغم من مساحتها الشاسعة، يُعد سبباً قوياً لهذه الحرب،
نظراً لأنها تعتمد حالياً على ميناء جيبوتي، منفذاً بحرياً وحيداً
لوارداتها، ومنها النفط. ومن ثم تسعى للحصول على ميناء عصب الإريتري، أو أي
منفذ لها على البحر الأحمر، يخضع لسيطرتها.
وقع هذا الخلاف الحدودي،
على الرغم من العلاقات الشخصية التاريخية الوطيدة بين أسياسي أفورقي وميليس
زيناوي، اللذين جمعتهما حربٌ واحدة، واستطاعا سوياً أن يغيرا ما رفضه
المجتمع الدولي خلال أكثر من أربعين عاماً. كما رتبا معاً كل المسائل
المتعلقة باستقلال إريتريا، ومستقبل علاقاتها مع إثيوبيا، وذلك في اتفاقيتي
أغسطس 1991م، وأغسطس 1993م، اللتين أكدتا على التعاون بينهما في المجالات
السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ورفع العقبات أمام تنقلات السكان في
البلدين، ومنحهم الجنسية المزدوجة، وعدم تدخل كل منهما في الشؤون الداخلية
للطرف الآخر، والتعاون في مجالات الدفاع والأمن والنقل والمواصلات، ومنح
إثيوبيا تسهيلات في الموانئ الإريترية. وكذلك، فإن من أسباب الصراع، إصدار
إريتريا عملة وطنية خاصة بها (ناكفا)، لتحل محل العملة الإثيوبية (البر)،
التي كانت تستخدمها أسمرة، لدعم استقلالها الاقتصادي. فبدأت العلاقات تسوء
بين الدولتين، حيث رفضت إثيوبيا الموافقة على إصدار هذه العملة، ورفضت
مساعي إريتريا لمساواة قوتها الشرائية بالعملة الإثيوبية، بحجة اختلاف
السياسات المالية والاقتصادية المتبعة في البلدين. وأوقفت أديس أبابا
استخدام الموانئ الإريترية، ما عدا ميناء عصب، وتحولت إلى ميناء جيبوتي،
وهذا ما حرم الإريتريين من حصيلة الجمارك، ومصاريف الشحن وغيرها من
الخدمات. كما جعلت إثيوبيا التحويلات بين البلدين بالعملات الأجنبية ولم
تعترف بالعملة الإريترية لتسوية تعاملاتها مع أسمرة. وألغت رحلات شركة
الطيران الإثيوبية إلى أسمرة، وطالبتها بتسديد ديونها بالدولار، وهذا ما
رفضته إريتريا. إضافة إلى خلافات تجارية بين البلدين بشأن التجارة عبر
الحدود، والرسوم على البضائع، التي يتم إنتاجها بصورة مشتركة، أو تنتجها
إثيوبيا فقط، علاوة على التنافس بينهما على النفوذ في منطقة القرن الأفريقي
وقيادة المنطقة، ومجموعة القادة الجدد التي تشكلت من إثيوبيا وإريتريا،
وأوغندا، ورواندا. إضافة إلى سبب خاص بالرئيس الإريتري، الذي على الرغم من
تخلصه من خصومه السياسيين، يُريد تأمين بقائه في الحكم، والحفاظ على تماسك
إريتريا، التي تتنازعها مجموعة فصائل مختلفة. كما يساهم هذا النزاع في
إرجاء الانتخابات، التي كان من المقرر عقدها هذا العام، إلى أجلٍ غير مسمى،
وهو أمرٌ يُسهم في تحقيق أهداف أفورقي.
ففي يناير 2000م، اتهمت إريتريا
سيوم ميسفين وزير خارجية إثيوبيا باختلاق ادعاءات ضدها، لإظهارها بصفة
دولة عدوانية، تدعم الإرهاب، واتهمت أديس أبابا بأنها هي التي تدعم جماعة
أصولية موالية لأسامة بن لادن في الصومال.
وقالت الخارجية الإريترية إن
إثيوبيا كانت حتى وقت قريب جزءاً من التحالف الذي يحارب الأصولية، والذي
كان يضم أيضاً إريتريا وأوغندا، ولكن هوس أديس أبابا "بعدوانها" على
إريتريا جعلها تتحول "وتفقد الرؤية وتبرم تحالفاً خطراً مع مجموعات
متطرفة".
وضربت إريتريا مثالاً بحل نزاعها على الحدود البحرية مع اليمن
سلمياً، عن طريق التحكيم الدولي، ودعت إثيوبيا إلى أخذ درس من هذا الأسلوب
في حل الخلافات، مشيرة إلى أنها تتمتع بعلاقات دافئة مع صنعاء حالياً، بعد
حل النزاع ودياً.
وقالت الخارجية الإريترية أن إثيوبيا هي الدولة
الأفريقية الوحيدة، التي انتهكت مبدأ منظمة الوحدة الأفريقية الخاص بعدم
تجاوز الحدود الاستعمارية القديمة، التي تحدد حدود الدول في القارة.
وفي
آخر فبراير 2000م، تجددت المخاوف من جولة معارك واسعة جديدة في الحرب
الإريترية ـ الإثيوبية، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى والجرحى،
خاصة أن إثيوبيا اتهمت إريتريا بالاستمرار في سياسة خداع العالم، عن طريق
شن الهجمات، والادعاء بأن إثيوبيا هي، التي بدأت القتال، وحملت القوات
الإريترية مسؤولية البدء في الاشتباكات.
غير أن الدولتين اتفقتا اخيرا
على عرض النزاع الحدوى بينهما على محكمة العدل الدولية فى لاهاى و التى
أصدرت فى 13-4-2002 حكما بأحقية إثيوبيا في المنطقة المتنازع عليها بين
الجانبين، التي تضم مناطق زالامبيسا، بادمي، أيروب، اليتينا .
غير أن
السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تقبل إريتريا حكم المحكمة الدولية فعليا
بعدما اعترفت به قانونيا على غرار ما فعلت مع اليمن، أم أنها ستعرقل تنفيذه
نظرا إلى طبيعة العلاقة الصراعية بينها ويبن إثيوبيا؟